الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد (نسخة منقحة)
.الذكر والشكر: وأما الشكر فهو القيام له بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهرا وباطنا، وهذان الأمران هما جماع الدين، فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته، وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس والسموات والأرض ووضع لأجلها الثواب والعقاب، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وهي الحق الذي به خلقت السموات والأرض وما بينهما وضدها هو الباطل والعبث الذي يتعالى ويتقدس عنه، وهو ظن أعدائه به قال تعالى {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا} سورة: ص الآية رقم: 27،وقال: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} الدخان: الآية رقم: 38.وقال: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية} سورة الحجر: الآية رقم: 85، قال بعد ذكر آياته في أول سورة يونس: {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} يونس: الآية رقم: 5.وقال: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} القيامة: الآية رقم: 36، وقال: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} المؤمنون: الآية رقم: 115، وقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذارايات: الآية رقم: 56. {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} الطلاق: الآية رقم: 12،وقال: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} سورة المائدة: الآية رقم: 97. فثبت بما ذكر أن غاية الخلق والأمر أن يذكر وأن يشكر. يذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر. وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره، شاكر لمن شكره، فذكره سبب لذكره، وشكره سبب لزيادته من فضله. فالذكر للقلب واللسان، والشكر للقلب محبة وإنابة، وللسان ثناء وحمد، وللجوارح طاعة وخدمة. .الهداية تجر الهداية والضلال يجر الضلال: وأيضا فإنه البر ويحب أهل البر فيقرب قلوبهم منه بحسب ما قاموا به من البر، ويبغض الفجور وأهله فيبعد قلوبهم منه بحسب ما اتصفوا به من الفجور، فمن الأصل قوله تعالى: {الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} البقرة: 1-2 وهذا يتضمن أمرين: أحدهما: أنه يهدي به من اتقى مساخطه قبل نزول الكتاب. فإن الناس على اختلاف مللهم ونحلهم قد استقر عندهم أن الله سبحانه يكره الظلم والفواحش والفساد في الأرض ويمقت فاعل ذلك، ويحب العدل والإحسان والجود والصدق والإصلاح في الأرض ويحب فاعل ذلك، فلما نزل الكتاب أثاب سبحانه أهل البر بأن وفقهم للإيمان به جزاء لهم على برهم وطاعتهم، وخذل أهل الفجور والفحش والظلم بأن حال بينهم وبين الاهتداء به. .مراتب الهداية: فأخبر عن آياته المشهودة العيانية أنها إنما ينتفع بها أهل الصبر والشكر، كما أخبر عن آياته الإيمانية القرآنية أنها إنما ينتفع بها أهل التقوى والخشية والإنابة ومن كان قصده اتباع رضوانه، وأنها إنما يتذكر بها من يخشاه سبحانه كما قال: {طه. ما أنزلنا القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى} طه: 1-3، وقال في الساعة: {إنما أنت منذر من يخشاها} النازعات: 45. وأما من لا يؤمن بها ولا يرجوها ولا يخشاها فلا تنفعه الآيات العيانية ولا القرآنية. لهذا لما ذكر سبحانه في سورة هود عقوبات الأمم المكذبين للرسل وما حل بهم في الدنيا من الخزي، قال بعد ذلك: {إن في ذلك لآيات لمن خاف عذاب الآخرة} سورة هود، الآية 27 فأخبر أن في عقوباته للمكذبين عبرة لمن خاف عذاب الآخرة. وأما من لا يؤمن بها ولا يخاف عذابها يكون ذلك عبرة وآية في حقه، وإذا سمع ذلك قال: لم يزل في الدهر الخير والشر والنعيم والبؤس والسعادة والشقاوة. وربما أحال ذلك على أسباب فلكية وقوى نفسانية. وإنما كان الصبر والشكر سببا لانتفاع صاحبها بالآيات؛ لأن الأيمان ينبني على الصبر والشكر، فنصفه صبر ونصفه شكر، فعلى حسب صبر العبد وشكره تكون قوة إيمانه. وآيات الله إنما ينتفع بها من آمن بالله وآياته، ولا يتم له الإيمان إلا بالصبر والشكر، فإن رأس الشكر التوحيد، ورأس الصبر ترك إجابة داعي الهوى. فإذا كان مشركا متبعا هواه لم يكن صابرا ولا شكورا، فلا تكون الآيات نافعة له ولا مؤثرة فيه إيمانا. .الأصل الثاني- وهو اقتضاء الفجور والكبر والكذب للضلال: فأخبر أنه عاقبهم على تخلفهم عن الإيمان لمن جاءهم وعرفوه وأعرضوا عنه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم وحال بينهم وبين الإيمان، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} الأنفال: 24 فأمرهم بالاستجابة له ولرسوله حين يدعوهم إلى ما فيه حياتهم، ثم حذرهم من التخلف والتأخر عن الاستجابة الذي يكون سببا لأن يحول بينهم وبين قلوبهم. وقال تعالى: {فلما أزاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} الصف: 5. وقال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} المطففين: 24 فأخبر سبحانه أن كسبهم غطى على قلوبهم وحال بينها وبين الإيمان بآياته، فقالوا أساطير الأولين. وقال تعالى في المنافقين: {نسوا الله فنسيهم} سورة التوبة: 67، فجازاهم على نسيانهم له أن نسيهم فلم يذكرهم بالهدى والرحمة، وأخبر أنه أنساهم أنفسهم فلم يطلبوا كمالها بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق. فأنساهم طلب ذلك ومحبته ومعرفته والحرص عليه عقوبة لنسيانهم له وقال تعالى في حقهم: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم. والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} محمد: 16-17.فجمع لهم بين اتباع الهوى والضلال الذي هو ثمرته وموجبه كما جمع للمهتدين بين التقوى والهدى. .الهدى قرين الرحمة والضلال قرين الشقاء: وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة، والصحيح أنهما الهدى والنعمة، ففضله هداه، ورحمته نعمته، ولذلك يقرن بين الهدى والنعمة كقوله في سورة الفاتحة: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} الفاتحة: الآية رقم: 6. ومن ذلك قوله لنبيه يذكره بنعمه عليه: {ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى} الضحى: الآية رقم: 6، 7، 8 فجمع له بين هدايته له وإنعامه عليه بإيوائه وإغنائه. ومن ذلك قول نوح: {يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده} هود: الآية رقم: 28،: وقول شعيب: {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا} هود: الآية رقم: 88، وقال عن الخضر: {فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} الكهف: الآية رقم: 65، وقال لرسوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا} الفتح: الآية رقم: 1، 2، 3، وقال: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} النساء: الآية رقم: 113، وقال {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا} النور: الآية رقم: 21، ففضله هدايته ورحمته إنعامه وإحسانه إليهم وبره بهم. وقال: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} طه: الآية رقم: 123، والهدى منعة من الضلال، والرحمة منعة من الشقاء، وهذا هو الذي ذكره في أول السورة في قوله: {طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} طه: الآية رقم: 1، فجمع له بين إنزال القرآن عليه ونفي الشقاء عنه، كما قال في آخرها في حق أتباعه: {فلا يضل ولا يشقى}. فالهدى والفضل والنعمة والرحمة متلازمان لا ينفك بعضهما عن بعض، كما أن الضلال والشقاء متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: {إن المجرمين في ضلال وسعر} القمر: الآية رقم: 47، والسعر: جمع سعير، وهو العذاب الذي هو غاية الشقاء، وقال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} الأعراف: الآية رقم: 179، وقال تعالى عنهم: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} الملك: الآية رقم: 10. ومن هذا أنه سبحانه يجمع بين الهدى وانشراح الصدر والحياة الطيبة وبين الضلال وضيق الصدر والمعيشة والضنك، قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} الأنعام: الآية رقم: 125 وقال: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} الزمر: الآية رقم: 22، وكذلك يجمع بين الهدى والإنابة وبين الضلال وقسوة القلب، قال تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} الشورى: الآية رقم: 13، وقال تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} الزمر: الآية رقم: 22. .العطاء والمنع: .العاقل لا يتعلق بالعالم السفلي: .مفاسد الكذب: ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار» ورد الحديث في البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي بألفاظ مختلفة، ولفظه عند مالك: إن عبد الله بن مسعود كان يقول: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ألا ترى أنه يقال: صدق وبر، وكذب وفجر». الموطأ- الحديث 1814- طبعة دار النفائس.وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله، فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتدراكه الله بدواء الصدق يقلع المادة من أصلها. ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب، فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق. وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب. والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} سورة التوبة: الآية رقم: 119، وقال تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} المائدة: الآية رقم: 119، وقال: {فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم} محمد: الآية رقم: 21، وقال: {وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} التوبة: الآية رقم: 90. .وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم: في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعاقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد وأوجب له ذلك أمورا: منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء؛ لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه، فإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب، وخاصة العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل، فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها، والعاقل الكيس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها فيرى ما وراء تلك الستور من الغابات المحمودة والمذمومة. فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل، فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفض إلى العافية والشفاء، وكلما نهاه كرهه مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول. ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية، فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة. ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التعويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له لما يرجو فيه من حسن العاقبة. ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئا بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك. ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه، بما يختاره هو لنفسه. ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه؛ لأنه مع اختياره لنفسه، ومتى صح تفويضه ورضاه، اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يهون عليه ما قدره. إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة، فإن السبع لا يرضى بأكل الجيف.
|